المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السهل الممتنع في فلسفة (الحب) عبدالله العليوي


وضاح
2010, 02:18 PM
السهل الممتنع في فلسفة (الحب)
صور من شفافية الروح وعمق إلاحساس

كتب - عبد العزيز الحمد القاضي:



شفتك مع اللي صار عقبي حبيبك .........................
............................. واحتارت العبرة بعيني وصديت!

عبدالله العليوي

الحب إشراقة روح, وسمو مشاعر.. وعالم الحب عالم مختلف بكل المقاييس, عالم خارجٌ عن نطاق قوانين العقل, وموازنات الواقع.. إنه عقد شراكة بين قلبين تجمعهما ظروف التحام تبدأ بإعجاب بالصورة والروح, وتنتهي بامتزاج قلوب وأرواح يصل إلى درجة التماهي التام. عقد يُكتب بحبر المشاعر على صفحات الأضلاع, رسوله النظر, وشاهده الشوق.

ودافع الحب مُختَلف عليه بين المفكرين وفلاسفة هذا الفن المتأملين فيه, ولست أعلم عن التفسير العلمي للطبيعة الفسيولوجية لهذه العلاقة. وهناك من يرى أن الحب دافعه في الأساس جنسي, ولذلك فإنه يزول بزوال مثيرات هذا الدافع, وكان المفكر الأديب الراحل المرحوم الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يرى هذا الرأي. وهناك من يرى أن الحب علاقة عليا لا دنيا, علاقة روح لا جسد, علاقة تُخلق فجأة بلا سبب, فتبقى وتدوم مهما اختلفت الظروف والأحوال, وهو ما أميل إليه. والحب الحقيقي بهذا المعنى نادر, وقد اختلط لدى الكثيرين بالإعجاب والميل, وغالبا ما يُفسر الإعجاب والميل - خطأ - بأنه حب.

إن الحب يزدهر ويسمو عندما يكون كل من طرفي العلاقة فيه على درجة واحدة من اليقين بحقيقة المشاعر تجاه الطرف الآخر. والمعضلة الكبرى التي تُسبب الأزمات للعشاق, وتُسيل دموعهم, وتُذيب قلوبهم, وتفلق أكبادهم حسرةً ولوعةً وألمًا, هي اختلاف درجة اليقين بين المحب ومحبوبه. ومن يتأمل في أدبيات العشق في الثقافة العربية وغيرها عبر تاريخها الممتد إلى الجاهلية, يجد أن قصص الحب وملاحم العشاق الخالدة سطرتها أحداث أخلَّت بانسياب العلاقة بين طرفي المحبة, إما عن طريق وقوف أشخاص أو ظروف حالت بين المتحابين, أو عن طريق عدم تكافؤٍ وتوازنٍ في الانجذاب بين الطرفين, فيكون أحدهما محبا والآخر غير محب ابتداء, أو يكون أحدهما أقل يقينا وعشقا من الطرف الآخر, وربما كان اتخذ المسألة منذ البداية لهْوًا وإثارة.. ولهذا السبب وغيره تعددت معاني الغزل في الشعر من شكوى إلى عتاب إلى وجد إلى حنين.. إلخ.

والغيرة.. فطرة إلهية غير مقتصرة على البشر وحدهم, وهي لدى العشاق أعمق منها لدى غيرهم, والعاشق يموت كمدا من صدود حبيبه, فما بالك به إذا رآه يزهد في حبه بعد أن يعلقه على مشنقة الهوى, وينتقل إلى محبوب آخر, وما بالك به حين يراه بعينه مع ذلك الآخر الذي حل محله.

والبيت أعلاه مطلع لمقطوعة ذائبة لشاعر الوجد والحب العذري المرحوم عبدالله العبدالعزيز العليوي, الشاعر العاشق الذي صهره الحب حتى أحرق قلبه, وأذاب كبده, وأفشل كِليتيه, الشاعر الذي أضافت تجربته المؤلمة للشعر النبطي بُعدًا جديدا وجميلا في الوقت ذاته, تمثل في قصائد ديوانه المؤثر (بقايا شوق), والحق أن ما ورد في الديوان من قصائد ومقطوعات ملتهبة عميقة التأثير في النفوس الخالية فضلا عن النفوس المترعة بلهيب المشاعر.. ليس «بقايا شوق» بل بقايا روح ممزقة, وأشلاءُ قلبٍ مصلوبٍ على مذبح الحب.

لقد جسّد العليوي - رحمه الله - في هذا البيت السائر كل معاني الألم التي يُحدثها خداع الحبيب وخيانته, فقد رآه مع محبوبه الجديد, فطفرت دموعه وصدَّ بوجهه متألمًا, صدود العزة والشموخ لا صدود الذل والهوان. ولهذا الصد التلقائي - عدة دوافع, منها الهروب من مثير صاهر وهو ألم الحسرة, ومنها إخفاء دمعة الحزن عن عيون المحبوب الخائن وعن عيون الآخرين, ومنها تجسيد حالة الانهيار الروحي والضياع العاطفي, ومنها محاولة إيقاف تدفق الدموع من العين التي فجّر ينبوعها المشهد المثير. وبما أنه عاشق محب حبا حقيقيا لا مزيَّفا كمحبوبه, فإنه أراد - ترفُّقًا به - عدم التأثير عليه باكتشاف خيانته, وعمد إلى الالتفات حتى لا يراه الخائن, لأنه لا يزال يحبه, وهذا وجه من وجوه الحب الأصيل النادر الذي نتحدث فيه, فألمه شخصي لا حقد فيه على محبوبه بقدر ما فيه من شعور بمرارة الخيبة, وكل الأبيات التالية تنطق بهذه الحقيقة.

والعليوي شاعر يصف البعض شعره بأنه ينتمي إلى (السهل الممتنع), والحق أنه سهل ممتنع حقا, وربما كان امتناعه عائدا بالدرجة الأولى إلى تفرُّد التجربة التي مرَّ بها, وإلى شفافية روحه, وعميق إحساسه, وإلى موهبته المُلهمَة أيضا، والبيت الذي نسيح فيه هنا ينتمي إلى فئة الأبيات المشعَّة بالتأثيرات المختلفة, تلك التأثيرات التي تنتمي إلى عالم الوجدان, وإلى جمال التعبير. فالمعنى هنا مؤلم, وكل ما يعبر عن الخيانة مؤلم, وجمال التعبير تجلى في إيحاءات كلمة (عقبي) التهكمية, وهو تهكم ساقته مرارة الشعور! وكلمة (حبيبك) استخدمها الشاعر مجاراة لرأي الطرف الآخر, وإلا فإنه يؤمن بأن تبديل الأحبة لا ينتمي إلى عالم الحب النقي, ولذلك قال في بيت آخر من هذه المقطوعة (وأنت بحياتك يوم ما ظِنّ حبيت)! وأما حيرة العبرة وانحباسها بعد ولادتها فكان تعبيرا بالغ العمق عن شدة لهيب الألم المنبعث من المنظر المحزن, وكان الصد محاولة يائسة لاتقاء المزيد من تدفق الدموع الممزوجة بحُرقة الألم.

وزيادة على الجمال الموسيقي للفظ (العَبرة) قياسا على لفظ (الدمعة) فإن في العَبرة معاني وإيحاءات حزينة لا توجد في الدمعة في مثل هذا المقام, فالعَبرة عند شعراء النبط دمعة تسوقها آلام الروح المبرحة لا آلام الجسد.

شفتك مع اللي صار عقبي حبيبك
واحتارت العبرة بعيني.. وصدّيت

مدري هي الصدفة لدربي تجيبك
مدري أنا اللي في دروبك تحريت

ملكتني واقفيت.. ربي حسيبك
ما تعرف الرحمة بقلبٍ توليت

يا قلب جرحك سبّته من طبيبك
يا قلب ليتك بالوفا ما تماديت!

من حبنا كل السعادة نصيبك
يا فاقد الإحساس عني تخليت

وش فايدة لا قلت عني حبيبك
وانت بحياتك يوم ما ظنّ حبّيت!

جريدة الجزيرة الاربعاء 05 صفر 1431 العدد 13628
http://www.al-jazirah.com/125312/tr4d.htm



:32: