* من تأثر به الوالد في شعره : لا يستطيع أحد أن يحدد من هو الذي أثر على الوالد رحمه الله في شعره إلا بإخباره هو ؛ لأنه رحمه الله كان نهماً في قراءة الشعر العربي في عهوده المختلفة من جاهلي وإسلامي وأموي وعباسي ومعاصر ، فلا شك أن هذه القراءة الواسعة صاغت لدى الوالد رحمه الله أسلوباً يجمع بين الأصالة والمعاصرة في الشعر أهلته لأن يسميه الدكتور الأسعد ـ كما تقدم ـ (أمير الشعر المعاصر) ، فانظر إليه رحمه الله وهو يحيي أحد الشعراء العراقيين ممن وفد إلى عنيزة فمدحها وهو محمد جاسم الكفكير ، فرد عليه الوالد بقصيدة طويلة من عيون الشعر عارض قصيدته قال في مطلعها :
حيتك نجد صباها أو ندى ماهــــــا * ورندها وعبير في خزاماهـــــــــا
واستقبلتك مهود الشعر باسمــ * كأن نــور أقاحيهــا ثنايـاهــــــــــا
وجلجلت زغردات من مضاربهــــــا * كأنما عروة قد زف عفـــــــــراهـا
واجهشت بنداها روضـــــــــــة أنف * كأدمع كان ذوب الشعر معنــاهـا
وترجمت فرحة اللقيا لضرتهــــــــا * فجاوبتها هي الأخرى بفحواهــــا
وربوة بثت النجوى لجارتهــــــــــــــا * فأصبح الروض من روض يلقاهـــا
بأن "مربدها" أوحى لشاعــــــــــره * أن يلتقي بحما "الفيحاء" عكاظاها
وتلك أسطورة في سحر معجـــــزة * "الرافدان" أطلا من مراياهــــــــــــا
"هزار بغداد" اسعفنا ببوتقــــــــــــة * من "سحر بابل" إذ تشدو بليلاهــا
كيما نصوغ قوافينا مجنحـــــــــــــــة * وتجتلي الحس والإلهام دنياهــــــــا
"عنيزة" وهي في لقياك هانئــــــة * "خنساء" لا تبــرح الأشجان ذكراهــا
ما كان أعقبها لقيا واقصـــــــــــــرها * كذاك قصر ساع العمر أحلاهــــــــــا
أكرومة من يد الدنيا فقد حدســــت * من قبل مقدمكم أنا شكرناهــــــــــــا
حتى قال :
أبا عصام وللأشعـار نسبتهـــــــــــــا * وشيجة قد تلاقينا بقرباهــــــــــــــــا
إن المعارف في أهل النهى ذمــــم * نرعى فضيلتنا أمًّا رعيناهــــــــــــــا
إنا لنأمــل تجــــديدا لزورتكـــــــــــم * إن الكريم إذا ما زار ثناهـــــــــــــــــا
غادرت باريس نجد والخطا قـــــــدر * إلى بلاد روى التأريخ مغناهـــــــــــا
فاقرأ سنابك "زيد الخيل" في أجــأ * واقرع على حاتم الطائي سلماهـــا
وسوف تلقى كراماً ثم قـد ورثـــــوا * نـــدى وأنديـــة طلقــاً محياهــــــــــا
قومــاً يــرون لزامـاً حـق ضيفهــــم * سجية وكريم الطبع غذاهـــــــــــــــا
أبلغهم عن بني "الوادي" تحياتهـم * قصيدة تجمع الأحباب نجواهـــــــــــا
عنيــزة لــك يا كفكـــير عاشقــــــة * إن الغــرام الذي أغراك أغراهـــــــــا
قد أوكلتــني أن أشدو مشاعرهــا * وكل مـن يهب الأقدار يعطــاهـــــــــا
وقد بثثتك عن بغـداد في كلمـــــي * صبابـتي وسألـت الملتـــقى اللــــــه
وهكذا أحكم التأريخ دورتــــــــــــــه * فنحن في عالم العشاق صباهـــــا
* ولقد أبان الوالد رحمه الله أعجابه الشديد بالشاعر "المتنبي" مما يدل على تأثره الشديد والمتناهي به في قصيدة سماها "المتنبي" نذكر منها قوله :
ياسرير البيان يا صهوة الشعر * وبوح النضوج في ريعانه
قبل ميلادك الكلام انتحال * وسواسية بشد عنانه
واقتحمت الميدان تحدوا إماما * فتجلى الأستاذ في فتيانه
أنت روضـت للمعانـي القوافي * والمعــــاني بأســـرها لبيانه
وسماء الوجدان حلقت فيــــــه * حين تاه الإبداع في وجدانه
كتب الدهر فيك أطروحة الفخـــ * ــر فأنت الأستاذ في مهرجانه
سيدي بيننا الزمان طـــويل * وصـــداك المُــرنّ في إرنانه
لم تزل بيننا تعيــش وتعطـي * موسمًا والقرون ضمن أوانه
أنت قلب الإنسان في كل عصر * ومكان تنــوب عـن خفقانــه
كل بيت كأنمـــا شــع تـــــــواً * كالسلاف المقصور من أغصانه
* لكن ظهر ــ كذلك ــ تأثر الوالد رحمه الله بأبي العتاهية شاعر المواعظ والحكم خاصة في قصائده الأخيرة ، فقد ذكر الدكتور طارق الحبيب في مقاله القديم عن الوالد أنه أخبره رحمه الله : إن أعظم بيت أعجبه هو بيت أبي العتاهية :
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
ولذا يظهر للقارئ لأول وهلة هذا التأثر في شعر الوالد رحمه الله في قصيدته التي قال فيها :
وهل خالق الأكوان يحتاج حجة * على ذاته في أن يراه المعاند
له في كل شيء بالجلالة شاهد * على أنه حي عظيم وواحــــد
لكم ضل هذا الطين في أمر ربه * فلم ينفعل بالنور والطين جامد
وفي قصيدة أخرى عنونها بـ "الله" يقول رحمه الله :
يقول المرء هل للكون رب * وهل كون يكون بغير رب
وأية صدفة جاءت بخلـــــق * عجيب دون تدبير ولبِ
أراهم للظواهر ألهــــــوهـا * وأعينهم رأت من غير قلب
وما شرط المهيمن أن نراه * ولكــن في بصــائرنــــا نلــبي
وهذا الكون يدعونا إليــــه * لتعرفه العقول بغير حجب
* أغراض الشعر عند الوالد رحمه الله : هنا يحسن أن نجيب على ثلاثة أسئلة من أسئلة الإخوة الطلبة عن بعض أغراض الشعر عند الولد رحمه الله : الأول : لماذا كان مقلاً من شعر الغزل ؟ الثاني : هل له قصائد هزلية ، الثالث : هل يقول الشعر الشعبي المسمى بالنبطي : فأقول قبل الإجابة : إن الوالد رحمه الله لم يكن يقول الشعر ترفاً أو فناً كما يفعله غيره ، وإنما كان الشعر عنده رحمه الله رسالة تعبر رأيه في الأحداث التي يعيشها وتعيشها أمته ، ولذا فغالب شعره في قضايا الأمة كتسلط اليهود على فلسطين أو الرافضة على الحرم كما تقدم ذكر بعضه ، أو في التأوه لضعف الأمة وقوة أعدائها ، ولذا فحال الأمة كثيراً ما يصاحبه في شعره فانظر إليه على سبيل المثال وهو يقول :
فكم أرهب الأعداء عملاق أمتي * لذا عاجلوه في صباه لكي يثنى بما عنى
وهم ملكوا كل الأمور فكلمـــــــا * أراد قوام الحـــــال لم يبلغ الشأنــــــــــــا
وقد ركزوا في أرضه من كيادهـم * عوائق بثت في عزيمـــــــته الوهنـــــــــا
عصور ظالم نامهـــــــا ثم بعــدهـا * صحا وإذا بالقيد في جيله قنــــــــــــــــــــا
وغالب جرح القيد حينـــا ولم يــزل * إلى ألان بعد العتق لم يخلــع القطنــــــــا
فيارب إن كان الهوان جزاءنــــــــــا * فمَنْ بين أهل الأرض لــم يعصِ ومِنَّــــــــا
فعاقبهم دون اعتراض بذلهــــــــم * وقوتنا بالحق كي يقصــــروا عنَّـــــــــــــــا
فما نحن إلا أشقياء تمـــــــــــــردوا * ولم يبلغوا في جدِّ رشدهم السِّنَّـــــــــــا
و لاتجعل الأشياع تمخــــر بيننــــــا * يبادل بعض بعضنا البأس والضِغنـــــــــــــا
أقوام مقام العَوْذ من جاهليـــــــــة * على مستوى الدولات تطحننا طحنــــــــــا
بقومية أو مذهب أو سياســـــــــــة * لها نعرات تقتل العقل والذهنــــــــــــــــــــا
إليك إلهي آهة كم حبســـــــــــتها * ولكنها فاضت تناشدك الحسنــــــــــــــــى
فأنت الذي أكرمتنا بمحمـــــــــــــد * وبالبيت فاشمل منه أصقاعنا آمنـــــــــــــاً
فقد نزلت في الأرض منك مشيئة * تزلزل تدبير الجبابر لا تُثنــــــــــــــــــــــــى
نشاغلهم يارب حتى يســـلمـــــوا * إلى (قيس) أهل القدس بغيته (لبنـــــى)
* ويقول في قصيدة بعنوان "عرج على أطلال يعرب" :
عرج على أطلال يعـــرب * وأذرف على عدنان واندب
لا تــبكـها مـن قـلــــــــــة * الدار والأهـلون أرحــــــــب
إبك السجايا والأنــــــوف * الشم والحسب المهــــــذب
إبـك الأصـالة بعــــــد أن * طارت بها عنقاء معـــرب
وإبك الحياة بسيطــــــــــة * لكنها (شرف) ومطلــــب
يشدو بها الراعي الصغيـر * على ترنم كل مضــــــــرب
أواه قد صدىء الحديـــــــد * وكان كالشلال مذهـــــــب
خمدت براكين الإبـــــــــــاء * وعهدها كانت تلهـــــــــب
وترهل المهر الجواد وغاب * فارسه المجــــــــــــــرب
كغياب موسيقى الصهيــل * على ارتجاز فتى مدرب
حـتى تطـاول للحـمــــــى * ذئـب وسـنور وثـعلـــــب
وعلى فراش الغافلــــــــين * تعانقت أفعــى وعقرب
طـلع المذنـب والخرافــــة * في تهافتها تكـــــــــــذب
لـكنـها فــيمـا بـــــــــــــدا * أمست على الحبلين تلعب
لا لن أصدق أو أكـذب * كــل طالـعـنــــا مـذنـــــــب
يا أمتي كـم تقـرئــــــــــين * وما جدى ما كان يكتب
أمسى الكتاب اليعربي * كسفر عجم لم يعــــــــــرب
لـيت القبـور رفـاتهـــــا * كالروض يلوي ثم يخصب
لـتعـود دولـة أمـــــــــة * غربت وما خلقت لتغرب
أواه لو تجدي الشجون * مقالتي أواه تنحــــــــــــب
مـاذا أقـول بـواقــــــــــع * الوقت من كفيه يسلب
عـجبي إلـى متفائــــــل * ومن التشاؤم صرت أعجب
* وكذا كان رحمه الله ينتقد أحداث تقع من بعض الناس ناصحاً ومرشداً كالرجل الذي ذهب للندن ونثر الدراهم في الشارع فلما عوتب قال : أردت منهم أن يركعوا لنا كما أركعونا فقال الوالد رحمه الله :
لو شدني عجب لأعجبني الـــذي * نثر الدراهم في شوارع لندنـــــــا
مـــــا بين قوم لم يروهـا ســــبــة * أن ينحنوا كالانحناء على الجنــــى
لم يحضروا للشرق لو لم يركعـــوا * للمال وابتكروا المهازل عندنـــــــا
شعب يرون من السذاجة فعلـــــه * من ذا الذي يطأ النقود وما انحنى
ما ضرهم إن زغردوا أو صفقـــــــوا * ودعوا لحاتمه المبجل بالمــــــــنى
أدلى بفلسفة ترود خيالـــــــــــــــه * وكأنما حسب الرقيّ بما عنـــــــى
من أركعونا دورهم أن يركعــــــــــوا * يا سيدي ليس التشفي من هنـــا
أنسيت أنك في ربوع بلادهــــــــــم * كنز يوزع في مصارفها الغنــــــــــى
تسعى برجلك سائحاً متعشقـــــــاً * فتبادل العَرَض الرخيص بأثمنــــــــا
هم ينتجون وأنت سوق نتاجهــــــم * هم يعرضون وأنت تشري مذعنـــــا
مهما امتعضت ففي فؤادك عقـــدة * جعلتك تحقر لو زعمت الموطنــــــــا
يا حاتماً لو كـان ما ألقيتـــــــــــــــــه * في مصنع أو صرح علم يبتنــــــــــى
وأخذت من عدوى القبيح حصانة * ونقلت عنهم في الحياة الأحسنــــــــا
عظمت بلادك في عيون دهائهـم * فرأوك أقرب ما تكون تمدنـــــــــــــــــا
ميزان عقلك ما تقوم ببذلـــــــــــه * فاقصد تكون ذاك المهيب الأرزنــــــــا
ما كان أرسلك الإله إليهـــــــــــــم * من دون قوم كي تكون المحسنـــــــا
إياك في سفهائهم أن تقتـــــــدي * فلجدهم كانوا بزعمك أفطنــــــــــــــا
فخناهم حرية وحضــــــــــــــــــارة * لكنها بالأجنبي من الخنــــــــــــــــــــا
لو أنت تحمل بينهم جنسيـــــــــــة * صحبوك رغم الانتماء ملونــــــــــــــــا
لا تحسبن أدب المصالح فيهـــــــم * من أجل شخصك بل لدغدغة الغنــى