يا أهل الهوى وشلون سجّة هواكم=بالله عليكم كيف جاكم وجيتوه
والله لو يوم يصيّف غداكم=يمرّكم غض النهد ما عرفتوه!
هذا بيتان شهيران لشاعر نجد الكبير
محمد العبدالله القاضي , وجاء في مناسبتهما
حسب ما ورد في (ص 54) من الجزء الثالث من كتاب (
شعراء عنيزة الشعبيون) مايلي :
مر الشاعر الكبير
محمد العبدالله القاضي على مزارعين كانوا يحرثون الأرض ويُغنّون
ولكونهم لا يحفظون الأشعار يدمجون قصيدة بأخرى , فقال : . . .) ثم ذكر البيتين
وبحثت في النت عبر محرك البحث الشهير العم قوقل , فوجدت أن كثيرا من المنتديات تنسبهما
للشاعرة
مويضي البرازية المطيرية , مع اختلاف يسير في الرواية , فقد وردا كما يلي :
يأهل الهوى وشلون ملة هواكم=بالله عليكم وين جاكم وجيتوه
والله لو يبطي عليكم عشاكم=ويمركم غض النهد ماعرفتوه
ويبدو أن مصدر تلك الرواية مقالة خاصة بالشاعرة (
مويضي البرازية) كتبها شخص
اسمه محمد المطيري .. وختم تلك المقالة بما يلي :
(وبالأخير ..
أعتذر عن الإطالة .. وأتمنى إن الصورة وضحت ..
ولكم التحية .. معطرة .. ومبخرة ..
هذا قول الاخ محمد المطيري فما نسب لها من قصيد..؟
قيل انها عشقت وتولعت في محبوبها وقالت هذا البيتين …)
ثم ذكر هذين البيتين , ومن يتأمل في هذه العبارات يدرك أن الكاتب لا يجزم بنسبتهما ل
مويضي
وذكرهما على أنهما مما نُسب لها .. ثم تناقلت تلك المنتديات نسبتهما لمويضي من هذه الكلمة على ما يبدو
وذكرت منتديات أخرى مناسبة أخرى للبيتين وهي أن الشاعرة حين سمعت أن كل من هب ودب
من الشباب يشكون لوعة الغرام وهم لايعرفون منه سوى اسمه , قالت هذين البيتين تسخر منهم ..
ورغبة في التوثيق اتصلت مغرب هذا اليوم بالأستاذ الشاعر
سليمان الهطلاني , معد كتاب
(
شعراء عنيزة الشعبيون) وسألته عنهما فأكد أنهما للقاضي , وسألته : هل هذا الجزم من محفوظك
أم من مصدر مكتوب ؟ فأجاب أنه نقلهما من مخطوطة كانت ضمن مجموعات الراوية الشهير
عبدالرحمن الربيعي , لكنهما ليسا بخطه .. قلت :
والربيعي رحمه الله من أوثق الرواة قاطبة
ومجموعاته المخطوطة حفظت جزءا كبيرا من التراث الشعري لشعراء عنيزة وغيرها , وهو المرجع
الأول لشعر كل من
سليمان بن شريم ,
وعبدالله بن دويرج .. وذكر الدكتور
عبدالعزيزاللعبون
معد كتاب (
أمير شعراء النبط .. محمد بن لعبون) أنه وجد لدى الربيعي من قصائدابن لعبون
مالم يجده عند غيره , وأثنى عليه وعلى مخطوطاته ..
وذكر لي أبو هاني (
سليمان الهطلاني) أن المخطوطة التي نسبت البيتين للقاضي ذكرت اسم المزرعة
التي رأى القاضي فيها المزارعين وهم يخلطون في الأشعار أثناء غنائهم , وهي مزرعة (
الهاشلي) ..
قلت : ومزرعة الهاشلي لا تزال قائمة في وسط عنيزة .. وبعض مخطوطات
الربيعي رحمه الله
يرد فيها قصائد بخطوط أصدقائه وزوراه .
وبنظرة فاحصة للبيتين نجد أنهما أقرب إلى أسلوب
القاضي وروحه , فلغتهما وأسلوبهما حضريان
و
مويضي شاعرة بدوية . زد على ذلك أن أسلوبهما أسلوب رجل لا امرأة , فعبارة (
يا اهل الهوى)
نادرا ما ترد في شعر النساء .. ثم إن كلمة
(يصيّف) بمعنى (يتأخر) إذا اعتبرنا أنها الرواية الصحيحة
كلمة حضرية ولا تزال هي الكلمة المختارة للتعبير عن هذا المعنى في عنيزة وما حولها ..
وكان
القاضي صاحب دعابة ومزح , وقصصه في هذا المجال كثيرة , ومنها قصته مع الرايس , فقد كان
يسير متنزها في البساتين القريبة من منزله بحي البرغوش , وسمع عن بعد (
الرايس) وهو المُزارع
الذي يتعهد المزروعات بالسقي , سمعه يتغنى بشعره فيفسده بتحريف وتكسير, وتقديم وتأخير وخلط ..
فساءه ذلك وأراد أن يلقنه درسًا عمليا في ضرورة الضبط , فعمد إلى (
الساقي) الرئيسي , وهو الجدول الذي
يمر عبره الماء من البئر إلى أحواض النخيل والأشجار , فهدم جانبا منه , فتفرق على إثره الماء يمينا وشمالا
وفي الطرف الآخر عندما أحس الرايس بانقطاع الماء , أخذ يتتبع الساقي ليعرف مكان الانقطاع
وكان كثيرا ما ينقطع , بسبب تدفق الماء وغزارته , أوضعف جدار الساقي الطيني . فلما وصل إلى المكان
وجد الماء متفرقا , والقاضي جالسا عنده, فسلّم ونظر إلى الماء وإلى القاضي نظرة ارتياب ودهشة , وسأله :
أأنت فعلت هذا يا أباعبدالله ؟ فقال
القاضي : نعم ! فازداد عجبه , وسأله مستنكرا : لماذا ؟ فقال القاضي :
حتى تعرف أنك كما تستاء من إفساد عملك فأنا أستاء من إفساد شعري , وأنت طيلة الوقت تتغنى به وتخربه !
ثم أنشد رحمه الله :
والله من بيتٍ ورا الصدر مكنون=وأخاف جهّيل الملا يدمرونه
أخاف جهّالٍ وللبيت يلوون=ويخرّبون اللي مضى من فنونه !
فضحك الرجلان ومضى كل منهما إلى شأنه ..
وكذلك قصته مع راويته
إبراهيم الربيعي , والد عبدالرحمن الراوية المشهور , عندما قال له :
إن أهل الروغاني ـ وهي إحدى ضواحي عنيزة ـ أتوا إلينا يريدون أن نذكر لهم خطيبا يخطب ويصلي بهم الجمعة ,
وأراك تصلح لذلك يا
إبراهيم . فاعتذر منه
إبراهيم وقال : ليس لي معرفة بالخطابة , كما أني خجول
لا أستطيع مواجهة الناس . فقال القاضي : لا تخف من انتقاد لما ستقوله في الخطب ,
ووالله لو تقول عندما تصعد المنبر (
ياما حلا الفنجال مع طلعة الشمس) لقالوا (آمين) ولم يعلموا ماتقول !
وكذلك قصته مع حموم وعكوم فقد خرج الشاعر من المسجد بعد صلاة العشاء في أحد الأيام ,
فرأى المرحوم
حموم بن حركان الخريجي نائما على عتبة أحد الدكاكين ورأسه يتدلى من طرفها ,
فتمهل في مشيته متعجبا من هذا المنظر, ثم واصل سيره إلى منزله , وعندما خرج لأداء صلاة الفجر,
وجد حمّومًا في مكانه وعلى هيئته الأولى التي رآه فيها أول الليل, يغط في سبات عميق, فهاله ما رأى ..
وقال على الفور :
لو أتمنّى قلت أبي راس حمّوم=بالليل وإلا بالنهار أبي راسي !
أما عكوم فهو
عبدالكريم بن محمد بن سليمان الفياض , ويُعرف بـ (عكّوم) لأنه كان يقول عندما يُسأل ـ وهو صغير ـ
عن اسمه : (
عكوم) بدلا من عبدالكريم .وكان الشاعر وعكوم صديقين يلتقيان في أغلب الأمسيات في نفود المزادة ,
في المكان المسمى (
الجادول) قرب مزرعة عكوم , فيتجاذبان أطراف الأحاديث .. وفي يوم من الأيام ذكر
عبدالكريم أنه اشترى (مصير ودك) ليدهن به (محال السواني) , وقال إنني بدأت آكل منه في الطريق , ولم أصل
إلى مزرعتي إلا وقد التهمت كل ما في المصير من الودك . فانبهر
القاضي بما سمع , فقال على الفور :
لو أتمنّى قلت أبي كبد عكوم=اللي تحدِّر كل ليّن وقاسي !
هذه روح وشخصية
محمد العبدالله القاضي , وهي متطابقة مع الشخصية التي قالت البيتين موضوع البحث هنا
كما أن أسلوبهما الأدبي متوافق تماما مع أسلوب القاضي رحمه الله .. ولذلك فإني أضم صوتي إلى رأي
الأستاذ
سليمان الهطلاني , المنقول من إحدى مخطوطات الربيعي رحمه , وأكاد أجزم بأنهما للقاضي
لا لمويضي البرازية عليهما رحمة الله .. ولعل من لديه رأي في الموضوع يدخل هنا ويوضح لنا
وسواء أكانا
للقاضي أم ل
مويضي فإن هذا لا يهم بقدر ما يهمنا التوثيق ونسبتهما لصاحبهما ..