شهد النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري اضطرابات سياسية وحروبا
دامية في منطقة نجد وما حولها .. ولعل من أهم أسباب نشوء تلك الاضطرابات
ظهور إمارة آل الرشيد في حائل بزعامة عبدالله العلي الرشيد الأمير القوي الفاتك
وأخيه عبيد البطل المغوار ! ولعل أبرز ما تميز به هذان القائدان هو المغامرة والشجاعة ..
وبعد ظهور إمارة آل الرشيد بأقل من سبع سنوات بدأت سلسلة من المعارك بين
حائل والقصيم عموما وعنيزة على وجه الخصوص , وكان من نتائج تلك المعارك
أن قُتل بعض زعماء عنيزة وأهمهم مؤسس إمارة السليم فيها وهو يحيى السليم ,
قتل في (بقعا) أولى الكوارث على أهل القصيم , وذلك سنة 1257هـ , ثم قُتل عدد
من أسرة السليم في عدد من المعارك التي أعقبت (بقعا) .. وخصوصا في عهد مؤسس
إمارة الرشيد عبدالله الرشيد ..
وبعد وفاة عبد الله الرشيد سنة 1263هـ تولى بعده ابنه طلال , وكان طلال على النقيض
من أبيه وعمه .. إذ تفرغ لبناء (حايل) , وسعى إلى ازدهارها .. وترك شن الغارات
غير الضرورية والتحرش بالقبائل والمدن ..
وفي سنة 1281هـ غزا الجوف بتأليب من عمه عبيد , ولم يذهب بنفسه , بل أرسل
عمه الذي عاد منها مظفرا بمكيدة ..! بعد تلك المعركة أرسل محمد العبدالله القاضي
(شاعر نجد الكبير) قصيدة إلى طلال الرشيد يمدحه فيها , ويشيد بتلك المعركة ..
ولم يُعرف يوما أن محمد القاضي , كان له عناية أو اهتمام بالشؤون السياسية عموما
ناهيك عن مدح آل الرشيد أعداء بلده وحكام بلده وأنسابه ..! فمالذي دعاه إلى مدح
طلال الرشيد ؟ سؤال محير حقا , ولا جواب له إلا بالاستقراء ..
يقال والله أعلم ـ ولست أعلم أين قرأت هذا القول ـ إن بعض أهل البادية المحيطة
بعنيزة آنذاك نهبوا غنما وإبلا لبعض الأهالي , فلم تتصرف القيادة آنذاك التصرف اللائق
تجاه ذلك , فاغتاظ الناس ومنهم القاضي الذي استغل حادثة انتصار طلال الرشيد
على الجوف وقتها , فمدحه نكاية بقادة مدينته .. ويرجح هذا الرأي بيت لم يرد في القصيدة المنشورة ,
لكنه متداول على أنه آخر بيت فيها , وهو :
ياليت حكمك عندنا يالرشيدي=ما كان يوخذ زملنا من ورا الباب!
وربما كان القاضي إضافة إلى ذلك معجبا بشخصية طلال , وهذا لا شك فيه ,
فالقصيدة هذه وقصيدة أخرى رثاه بها بعد وفاته تؤكدان ذلك ..
المهم أن القاضي ـ كما يقول الرواة ـ كتب القصيدة , وانتدب مرسولا يوصلها إلى
طلال في حائل , وألح عليه بضرورة توخي الحيطة والحذر , لأن الموضوع خطير
لكن الداهية زامل العبدالله السليم نائب الأمير (وهو الأمير الفعلي وقتها) علم بأمر الرسالة ,
فأرسل مجموعة من (رجاجيله) للقبض على الرسول وإحضاره , فكمنوا له في الطريق
وأمسكوه وأحضروه إلى ديوان الإمارة , فمثل أمام زامل طائر القلب , فهدأ زامل من
روعه وطمأنه , وسأله عما معه فقال رسالة لطلال الرشيد من محمد القاضي ,
فقال زامل : لا عليك , أرنا الرسالة , فأعطاه إياها وعند استلامها شدها زامل قليلا
فانشقّ طرفها فأخذ يعتذر إلى الرسول ويبدي أسفه له , وقال له : لا يجوز أن تذهب
بها وهي مشقوقة , لذلك سنعيد كتابتها في ورقة جديدة , فاستصوب الرسول الأمر ,
فأمر زامل كاتبه أن يكتب ما يمليه عليه , فأخذ يملي القصيدة على مسمع من الرسول
بيتا بيتا , وحين وصل نهايتها حذف البيت المشار إليه أعلاه ووضع بدلا منه :
أبي مِنِك ياشيخ ميّة مجيدي=مع مشلح ياشيخ شف مشلحي ذاب
(والمجيدي) عملة تركية متداولة في ذلك الوقت .. وواضح مقدار الدهاء الذي تصرف
به زامل تجاه الموقف , فهو تعمد إتلاف الرسالة الأصلية ليضع بدلا منها ما يريد ..
كما أنه استطاع أن ينسف القيمة التأثيرية للقصيدة بتغيير بيت واحد فقط في آخرها !
وهو يريد أن يجعل القاضي أمام طلال متكسبا متسولا بشعره .. فتسقط (هقوته) وقيمة
قصيدته
وبعد الفراغ من كتابتها لم يشعر الرسول بالتغيير الذي طرأ على القصيدة , فأخذها
وهو مطمئن إلى أنها نسخة طبق الأصل .. ثم أطلق سراحه وانطلق إلى حائل , وهناك
استُقبل استقبال الزعماء .. وكيف لا يُستقبل كذلك وهو يحمل قصيدة من شاعر نجد
الكبير محمد العبدالله القاضي , وقادم من عنيزة أيضا التي لا بد أن يكون لما يأتي منها
من مديح تأثير مختلف , والفضل ما شهدت به الأعداء !
قرئت القصيدة في البلاط الأميري وعلى مسمع من جميع الحاضرين , فاستمتععوا بها
غاية الاستمتاع .. ولكن عند قراءة البيت الأخير , تغيرت أوجه القوم , وأخذ ينظر
بعضهم إلى بعض , مستغربين .. أكل ذلك المديح كان تكسبا وتسوّلا ..!! وبعد برهة
فطن طلال وعمه عبيد , وكانا يعرفان أن القاضي من علية القوم , وليس من المتكسبين
فأخذا يفكران , ثم توصلا إلى رأي وهو أنه لابد أن البيت الأخير مُدخل على القصيدة ,
فأخذا يطابقانه على بقية الأبيات فوجداه غير مختلف , ثم توجها إلى الرسول ,
ووضعا السيف على رأسه , وطلبا منه أن يخبرهما بمن أخذ منه القصيدة ,
فقص عليهما قصة زامل , وعندها تنفسا الصعداء وابتسما وفهما الأمر .. وعند عودة
الرسول أعطاه طلال أربعمائة مجيدي وأربعة مشالح , وكتب للقاضي كتابا يخبره فيه
بالقصة , وذكر لك أن الأربعمائة مجيدي والمشالح الأربعة , هدية لا مكافأة , وأنها
نكاية بزامل على فعلته .. وعندما وصل الرسول وسلم القاضي الرسالة والهدية ,
استغرب الأمر , وعندما قرأ الكتاب وفهم القصة استلقى على قفاه من الضحك , وأخذ
يستطيل الليل لأنه كان مشتاقا إلى لقاء زامل وإطلاعه على فشل مكيدته .. وفي
الصباح دخل عند زامل وشكره على ما قدمه له من خدمة , وزامل متعجب لا يعلم
سبب هذا الشكر , فأراه القاضي كتاب طلال , وأخبره أن طلالا أرسل له أربعة
مشالح بدل الواحد , وأربعمائة مجيدي بدل المائة ! فامتعض زامل امتعاضا شديدا ,
ويقال إنه هجاه ببيتين , هما :
وراه هرجك يا(زبادة) يزيدي=ضدّ مدح ضدّه ولا سرّ الأقراب
طلال ما ينفعه منك المجيد=نجمٍ ظهر عزّي لربعه إلى غاب
ويقال إن البيتين للخياط لا لزامل .. و(زبادة) يقال إنه كان لقبا لمحمد العبدالله القاضي ..
وأحب أن أؤكد على أمرين هنا , وهما : أنه لم تكن هناك أية علاقة بين القاضي وطلال
الرشيد , قبل القصيدة , فليس صحيحا ما يتم تداوله هنا وهناك من أن القاضي كان
صديقا لطلال , ولا يوجد ما يدعم هذا الزعم ..
والآخر أن القاضي في قصيدته الأخرى التي رثى بها طلالا يؤكد على سبب الوفاة
وهو الانتحار , وينفي كل تشكيك في ذلك كما ورد في كتابات المؤرخين , فهو رثاه
فور وفاته , وقال فيما قال :
أعطت طلال الملك لين أمهلت له=تزخرف على وجهه بتجميع الأصنافي
يوم استتمت له وجت له على المنى=جرى من سبب كفه على نفسه إتلافي
وهذا تصريح لا يقبل الجدل في أن طلالا مات منتحرا ..! والسبب أنه أصيب بمرض
يقال إنه نتيجة تسميم تعرض له في شرق نجد , وأن هذا المرض سيؤدي به
ـ حسب رأي الطبيب الفارسي الذي أشرف على علاجه ـ إلى الجنون !
فأنف طلال من ذلك , وقال : (أصير مهبول تلعب علي وغادين حايل !!) قالها مستنكرا
ثم أطلق على نفسه رصاصة فمات ..
وهذه قصيدة القاضي في مدح طلال الرشيد , برواية عبدالرحمن الربيعي :
طلال لو قلبك حجر أو حديدي=أمداه من حامي وطيس الوغى ذاب
شبّيت في نجد بنار الوقيدي=واحرقت فيه عداك واذريت الأصحاب
وكسيت ملكك ثوب عزٍّ جديدي=وسلّيت حال عداك ياعز الأقراب
بحربٍ وضربٍ شاب منه الوليدي=مالوم من عاداك يومٍ ولا شاب
تلقى الخطوب بباس ليثٍ شديدي=وعزايمٍ عزّت على عمرو وشهاب
أحيت شجاعة خالد بن الوليدي=وأنسيت قالاتٍ لأبازيد وذياب
لو كان عمرو بن معد الزبيدي=حيٍّ لجا بحماك يا زاكي الأنساب!
حيثك وفيٍّ بالوعد والوعيدي=غيثٍ وليثٍ حضرميٍّ وقلاب
صميدعٍ عنتيت عيٍّ عنيدي=شهمٍ وفيٍّ هيلعيٍّ ووهّاب
شفقٍ على الداني حليمٍ رشيدي=طفقٍ على الجاني جريٍّ وحرّاب
روّح لابن شعلان علمٍ وكيدي=إنه بشهر الصوم ضيفٍ لحطاب
وأوفى لهم وافي الذمام الوعيدي=وعنى لهم في خمسة آلف قرّاب
سردٍ وحردٍ كالدبى يوم قيدي=وأتعب طويلات الجلامد على الداب
واقفوا عنه خرّام سك أويدي=وتبدلوا عن دارهم دار الأجناب
خيّم على (مارد) ورد الرديدي=وتم الجواب وعزّب الجيش معزاب
ضرَب وخرّب كل قصرٍ مشيدي=كن الصواعق والرعد حسّ الأطواب
دمّر وجمّر ناعمات الجرديدي=وأهفى مقام القوم والنوم له طاب
بفجريّة كنه ضحى يوم عيدي=بدريّة ويعَز به من بالأصلاب!
وهو على اللي مثل عنق الفريدي=أو قارحٍ مثل الفهد يوثب وثاب
يقلط على الجمع المشهّر وحيدي=كالموت لأرواح الملابيس نهّاب
يدوسهم دوس البغال الحصيدي=عسى عليه من الولي عز وحجاب
أنساهم الماضي بفعلٍ جديدي=وأودع مصاعيب يقادون بكتاب
صاروا له الحكام مثل العبيدي=وأسقى سراج العز كمن دم الأرقاب!
بالغت في مدحه ولا صح بيدي=ولا أحصي خصالْ أعجزت كل حسّاب
يقصر عنه فهمي وينفد نشيدي=ومن الثنا لي خاطرٍ ما بعد طاب
ياولاد عمه كاسبين الحميدي=شمّر ينابيع الصخا حصن الأطلاب
يا ما هفا يأيمانهم من عقيدي=ولا جنّبوا عن قالةٍ خوف طلاب
قوم إلى ركبوا على حرد الإيدي=شفت القلايع كالحراذين هِرّاب
وصلوا على الشافع بيوم الوعيدي=محمد المختار وآله والأصحاب