بصراحة، إني أتناوم وأنصت لكل حركة.
أنا أكذبُ على إخوتي وأشكو لهم مفاصلي الموجوعة باستمرار وقدميَّ المتورمتين من الروماتيزم. "أنا لا أقدر على المشي" مع أني قادرٌ على الركض حتى آخر الدنيا. ومع أني أدّعي الألم، لكنّي بصدق أحياناً لا أقدر أن أمشي ولا أن أتحرك. أشعر أني جسدٌ. مجرد جسد يسير إلى الفناء "أخرج من نفسك يا.. هيا" أرد "لا أقدر" مع أني حاولت الإنصات لصوتي الداخلي الزاجر، المشفق، المهزوم. وفي كل محاولة كنت أجد جنزيراً مربوطاً إلى باب العتبة، وفي الجنزير حلقة ممدودة باتجاهي. كنت أسمع أصواتاً تقول "تعال أيها السعدان الشاطر، المطبع، ادخل الحلقة" لكنّي رفضت. تكورت مثل طابة تحت الغطاء ورحت أصرخ "آخ قدمي"
أنتم لا تصدقونني.. أنا رأيتهم بأم عيني. كانوا يدورون على البيوت ومعهم السلاسل والحلقات.
قلت: أنا لست سعدان. أنا أسعد، أحمل إجازة في اللغة العربية منذ سنوات. يعني قبل أن يموت المتنبي بفترة وجيزة. أحببت مرة واحدة. لم أستطع أن أقدّم لحبيبتي العطور أو الورود في عيد الحبّ.
العيد المستورد، الموديرن. طلبت من أمي أن تبيع خاتمها الوحيد كي أذهب مع حبيبتي إلى البحر، نتعرى أمام الموج وندفع ثمناً لعرينا. ولكن أمي نهرتني بقسوة وقالت: ألا تخجل؟ همّت أن تصفعني، غير أنها ابتعدت واتجهت إلى كيس الخبز... رفعته في وجهي، كان فارغاً إلا من بعض البقايا اليابسة، أخذتْ تمزقه بعنف وتلقيه في وجهي وتمضي.
.........
عندما انحنيت..
أنا انحنيت أجمع الخبز ورأيت قصائد المتنبي تتناثر كالهباء. تذكرت أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" كانت قصائد المتنبي تعلو ثم تصطدم بالجدران. راعني أن أراها غباراً. رحت أضرب رأسي وأصرخ إلى أن اجتمع إخوتي. تحلّقوا حولي وهم يبكون "ما بك يا أخي" قرفصتُ على الأرض ورحت أبكي مثلهم. لم يكن في فمي كلام. شعرت أن الحروف تصير حصىً، وأن الحبر دماء تلطخّ الأصابع. أشرت لهم بأني لا أقدر على الكلام ولا أقدر أن أمشي. نخّ أخوتي حولي، مسحوا بأيديهم على وجهي ثم حملوني إلى السرير.
....
عندما أغلقوا علي الباب حاولت أن أنام. لكنيّ شعرت بأني أختنق، فنهضتُ إلى النافذة التي تطلُّ على الشارع. كان البائع الجوّال الذي أحفظ صوته الأجشّ يقف في الزاوية. وكانت امرأة تقف قربه وتجادله "بكم سعر البندورة، ألا يوجد أرخص؟ بكم سعر البصل ألا يوجد أرخص؟" ومن إشارات البائع عرفت أنه غضب من المرأة وهمَّ بضربها. ابتعدت المرأة إلى الوراء. لكن الرصيف كان لها بالمرصاد فسقطتْ على الأرض. جرجرت جسدها ثم نهضت مسرعة وهي تشير بيديها إلى السماء. رأيت السماء تقترب، ثم ابتعدت وصارت ضباباً. استدارت المرأة باتجاه النافذة. كانتْ مغبرّة الثياب، نظر المارة إليها شذراً، تابعوا ولم يقفوا. اقتربتْ أكثر باتجاهي. يا إلهي. إنها ترتدي ثياب أمي نفسها. مددت رأسي من النافذة، فركت عيني.. إنها أمي. أمي التي كانت على الأرض تجرجر جسدها النحيل وتحمل الخبز والسكر. حين رفعتْ رأسها هربتُ من عينيها. تراجعت إلى الوراء باتجاه السرير. غمرتُ جسدي باللحاف مرة أخرى.
............
شَعَرتُ بالبرد الشديد، صدقوني. ما كنتُ أدّعي ذلك.. أنا أتكور في السرير وأمي تدخل فأخجل من صوت دعساتها الثقيلة.
نادتني. ظللت مكوماً ولم أردْ. صوتها يقطر ألماً. سمعتها تبكي وتولول وتهمس لنفسها "علمته كي يرتاح ويريحني، ما قيمة هذه الشهادات التي يعلقها؟"
كانت تتفجّعُ، وكنت أتساءل ما هو اسمي "أسعد، أم سعدان.. أم؟"
فكرت أن أنزل وأبكي على قدمي أمي. رفعتُ الغطاء ونهضتُ.
ما كنت أتوقع ذلك. لقد رأيتها تتجه إلى الشهادات المعلقة وبيدها دقّاقة الثوم الخشبية تضرب الزجاج والإطار فيتناثر كل شيء. الجدران والسنوات، نوافذ الجامعة، فساتين الطالبات، ليالي الشتاء الطويلة الباردة.. كل شيء تناثر وتكوم حول طاولة صغيرة. كانت الأنقاض تملأ الغرفة وأنين حزين يتوزع باختناقٍ مكتومٍ.
عدت أغطي وجهي. ما كنت قادراً أن أرى هذا الدمار. لا أستطيع النظر إليه ولا إلى عيني أمي التي مازالت تحمل بقايا كيس الخبز ودقاقة الثوم. أزحتُ الغطاء قليلاً بعدما هدأت الأصوات المتلاطمة، فرأيت رأس المتنبي مشجوجاً فوق الشهادات ورأيت باب الجامعة الحديدي يقترب مني. كان صامداً في وجه الدمار. يبدو أن الحديد هو القادر على البقاء. الحديد القاسي الفظ يحدق بي وقد تدلت من قضبانه قيودٌ حديدية لربط الحيوانات الأليفة والسعادين. نهضت مفزوعاً، حاولت نزع رأس المتنبي من هذا الزمان. لم أقدر كانت القصائد كقيود محبوكة ودامية. استنجدت بقوله" الخيل والليل والبيداء...."
مع ذلك ظلّ في غيبوبته. بينما راحت قضبان الحديد تمتد أكثر. مددت يدي. رأيت القيود تتجه نحوي. تقترب وأنا أقترب من المتنبي، حاولت الاحتماء به لكنه مدّ هو الآخر يده. اقتربت القيود أكثر. انحنينا بصمتٍ وطاعة وأدخلنا أيدينا في القيد. حين نظرت إلى يدي داخل القيد فوجئت أنها تشبه يد السعدان فعلاً كانت مكسُوّة بالشعر الكثيف الأسود. وكان لي شبه مخالب عاجزة. أمروني أن أقفز فقفزتُ. وعندما سألوني "ما اسمك يا شاطر؟"
أجبت "اسمي سعدان، سعدان الشاطر..
رحت أبتسم في وجه أمي بينما هي تبكي. اندهشت من دموعها الغزيرة. وحين سألتها أدارت ظهرها وهي تشتمني، مع ذلك بقيت أبتسم وأقفز بسعادة.